لقد حوّل الشعب الإيراني يوم 28 من يونيو (حزيران) عام 2024 إلى يوم عظيم وتاريخي، من خلال مقاطعة الانتخابات بشكل فاعل وواعٍ، وعدم التوجه إلى مراكز الاقتراع، وذلك للمرة الرابعة على التوالي فيما يسمى "الانتخابات"، وكانت نسبة المشاركة أقل من 50%.
وبحسب الإحصائيات، التي نشرتها وسائل الإعلام الحكومية، فإن نسبة المشاركة في الانتخابات، باستثناء الأصوات الباطلة، بلغت في أحسن الأحوال نحو 40%. ومع خصم الأصوات الباطلة والبيضاء، سيتم تخفيض هذا الرقم بسهولة إلى رقم أكثر إذلالاً لنظام الجمهورية الإسلامية.
ويودع علي خامنئي كل صوت في رصيد النظام، بغض النظر عمن أعطي له، ويعتبره دليلاً على "سمعة" و"صحة" و"ديمومة" الجمهورية الإسلامية. وانطلاقاً من المنطق نفسه، فإن كل صوت لم يتم الإدلاء به وكل مواطن لم يحضر التصويت يجب اعتباره معارضاً نشطاً لنظام الجمهورية الإسلامية.
كان قادة النظام الإيراني يأملون في تعويض هزيمتهم في الانتخابات الثلاث السابقة من خلال خلق منافسة مصطنعة ومسيطر عليها بالكامل، مستغلين الأجواء العاطفية بعد مقتل إبراهيم رئيسي، ومن خلال التلاعب بشخص من الطبقة الأكثر تهميشاً فيما يسمى "الجماعة الإصلاحية" في إيران. ومن خلال زيادة المشاركة، يتوصلون إلى النتيجة المرجوة في تحديد خليفة لرئيسي، ويتحدثون مرة أخرى عن قبولهم وشرعيتهم بين الإيرانيين.
لكن الشعب الإيراني، من خلال إظهار تضامنه الوطني، اتخذ إجراءً جماعيًا لمقاطعة الانتخابات الصورية، وبهذه الطريقة، لم يبدد آمال النظام فحسب، بل فرض أكبر فشل أمام أعين العالم على نظام غريب تماماً عن إيران والإيرانيين.
إن هذا النصر الكبير، خاصة بعد انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية"، له العديد من المعاني والنتائج المهمة، ويمكن أن يجعل طريق الشعب للانتقال من نظام الجمهورية الإسلامية وإقامة نظام سياسي ديمقراطي علماني قائم على حقوق الإنسان، أكثر سلاسة.
إن مقاطعة الانتخابات في الظروف التي تعيشها إيران اليوم ليس لها معنى وتفسير آخر سوى أن الشعب الإيراني قال بصوت عالٍ "لا" للجمهورية الإسلامية مرة أخرى. وهذا الرفض للنظام الذي جاء ليستخدم أصواتهم لمصلحته دون الالتفات إلى أبسط حقوق ومطالب الشعب الإيراني، سيحظى بلا شك باهتمام على الساحتين الإقليمية والدولية وسيزيد الضغوط على النظام الإيراني.
في المسيرة التي سار عليها الشعب الإيراني منذ يناير (كانون الثاني) 2017، واتباعه للشعار الاستراتيجي والحاسم "إصلاحي أصولي/ انتهت القصة"، فإن النتائج التي تحققت في 28 يونيو (حزيران) تعتبر نقطة تحول، يمكن أن تعيد الأمل والروح للشعب وتجعله مستعدًا لأعمال جماهيرية أخرى مثل الإضرابات والاحتجاجات على مستوى البلاد ضد النظام الفاسد والقمعي والمستبد.
لا تملك الجمهورية الإسلامية الإرادة ولا القدرة على حل مشاكل الناس في مجالات السياسة الداخلية والخارجية والاقتصاد والثقافة والبيئة وغيرها. وهذا يعني بطبيعة الحال أن الأرضية ستكون أكثر ملاءمة لاستمرار وتوسيع الاحتجاجات النقابية والمعيشية والمدنية والسياسية في السنوات الأخيرة.
ولهذا السبب فإن إحباط النظام، الذي جاء بكل قوته واستدعى كل قواه من الإصلاحيين إلى مختلف أطياف التيار الأصولي للتعويض عن إخفاقات السنوات الأخيرة في صناديق الاقتراع، يعطي حافزاً وقوة مزدوجة للانتفاضة الآخذة في الانتشار رغم القمع الدموي والوحشي الذي تتعرض له.
إن هذه المقاطعة وعواقبها لن تعيد الأمل والروح المعنوية إلى معسكر الشعب الإيراني فحسب، بل سيكون لها أيضا انعكاس كبير جداً في معسكر أنصار النظام الإيراني، وتمنع النظام من إمكانية إحداث استقطاب كاذب في المجتمع من خلال تمديد الانتخابات إلى الجولة الثانية.
ورغم أن مسعود بزشكيان حظي بدعم كامل من محمد خاتمي، الذي يشير إليه الإصلاحيون على أنه زعيم الإصلاحات، إلا أنه لم يتمكن من استقطاب نطاق واسع وفعال ممن انفصلوا فعلياً عن هذا الاتجاه، بما في ذلك مير حسين موسوي، وزهراء رهنورد، ومصطفى تاج زاده، وجر أنصارهم إلى صناديق الاقتراع، الأمر الذي يوضح أن ما كان يسمى ذات يوم بـ "الإصلاح في الجمهورية الإسلامية" لم يعد سوى جثة هامدة.
وعلى الرغم من أن الإصلاحيين فقدوا منذ فترة طويلة قاعدتهم الاجتماعية السابقة، التي اكتسبوها في غياب منافسين جديين، إلا أنهم كانوا يأملون في هذه السنوات أن يحظوا مرة أخرى باهتمام علي خامنئي وحصة من السلطة والفوائد الاقتصادية والسياسية الناتجة عن الجلوس على "طاولة الثورة".
لكن عندما اعتبر بزشكيان مراراً وتكراراً خلال المنافسات الانتخابية أن علي خامنئي هو "خطه الأحمر"، وقال إنه ليس لديه خطط وسياسات، وأن نيته هي تنفيذ السياسات التي أعلنها المرشد الأعلى، أصبح من الواضح أن ملف التيار الإصلاحي، بالاسم والتعريف السابقين، قد أُغلق في العلاقات داخل السلطة أيضاً، وعملياً لم تعد هناك حدود ومؤشرات يمكن على أساسها التعرف على الإصلاحيين وتمييزهم عن نظرائهم الأصوليين.
أما داخل الأصوليين، فإن الوضع مأساوي بنفس القدر. فالأصوليون الذين أظهروا عداوتهم مع بعضهم البعض قبل بضعة أشهر فقط خلال المنافسة على دخول البرلمان، فإنهم خلال المنافسة على مقعد إبراهيم رئيسي أيضاً، أظهروا عمق الخلاف بينهم.
إن عدم القدرة على التوصل إلى توافق حول وجود مرشح واحد، وطريقة مواجهة المرشحين وأنصارهم، لا سيما سعيد جليلي ومحمد باقر قاليباف، تظهر أنهم متعطشون للسلطة وليس عشاق الخدمة، على عكس الشعار الشائع في نظام الجمهورية الإسلامية.
وأياً كان الاسم الذي سيخرج من صناديق اقتراع النظام الإيراني، فإن هناك حقيقة كبيرة ستلقي بظلالها على رأس الحكومة ومستقبل نظام الجمهورية الإسلامية: لقد أظهر الشعب الإيراني إرادته ووعيه من خلال مقاطعة الانتخابات عدة مرات، فالجمهورية الإسلامية، بعد أن فشلت في أدائها، أصبحت أكثر هشاشة من أي وقت مضى، وينبغي لها أن تقلق بشأن المستقبل.